تاريخُ الحَركة العُمّالية بالمغربْ: بين مكَاسب الرّواد والواقع المَرير، أيُّ آفاق؟ مُقابلة مع البَاحث شَكيب أرْسلان
لا تخفى على المُناضلين/ات العُماليين، وكذا على الباحثين في العلوم الاجتماعية والسياسية، تلك الحالة المؤسية التي بات عليها البحث في تاريخ الحركة العمالية المغربية.
فمنذُ جهود رواد هذا التاريخ، في مقدمتهم ألبير عياش، قلما تطور الاهتمام، ونادرة هي الأعمال المستوفية شروط المهنة. لا بل يمكن القول إن تاريخ الحركة العمالية بعد الاستقلال الشكلي لا يزال في عداد المأمول كتابته، بالنظر لهزالة معظم الكتابات عن هذه الحقبة، وحتى لطابعها المغرض، ما خلا النزر اليسير من ثمار باحثين مهتمين رغم عدم تفرغهم لهذا الشأن. من هؤلاء شكيب أرسلان، المعروف باهتمامه بالموضوع منذ عقود، والمقبل على نشر كتاب عن المناضل العمالي الشيوعي الرائد، ضحية النسيان، على حمامي .
لغاية تعزيز الاهتمام بتاريخ الحركة العمالية، وحفز المبادرات في هذا الاتجاه، تواصلت جريدة المناضل-ة مع الباحث المناضل شكيب ارسلان، وكان هذا الحوار.
• دراستك عن علي حمامي الذي كان «أول مغربي يزور بلد الثورة البلشفية» [*]، تدل على أن اهتمامك بتاريخ الحركة العمالية، النقابية والسياسية، لم يتوقف. فما سياق انشغالك بهذا التاريخ؟
– كما تعلمون كنت دائم الاهتمام بتاريخ الحركة العمالية المغربية، وذلك منذ مطلع سنوات الثمانينات. وعموما كان هناك اهتمام واسع بتاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في مجمل العالم العربي ولعبت دور النشر العربية في لبنان وسوريا ومصر والعراق دورا هاما في نشر وتعريب تاريخ الحركة العمالية العالمية. فكنا نتفاعل مع هذه النقاشات باهتمام وشغف وتعطش بين الطلبة والباحثين وعموم المناضلين اليساريين فالمشهد الثقافي والجامعي والسياسي كان يشجع على مثل هذه الأبحاث.
ولابد من الاعتراف بعدم تيسر القيام بأبحاث في هذا النوع من المواضيع، في «سنوات الرصاص» تلك. ولتيسير مهمتي قررت، بتشجيع ودعم من الباحث والمناضل التونسي مصطفى الخياطي- الذي كان أستاذا زائرا، مساعدا ومؤقتا- أن أسجل رسميا وإداريا سنة 1982 موضوع بحث لدى جامعة الدار البيضاء، بعد أن وجدت بمشقة أستاذا يقبل موضوع بحثي المتعلق بتاريخ الحركة الشيوعية المغربية. قدمت ذلك البحث في العام1985، وبعد ثلاث سنوات من التحريات، وقد اكتنف بعض جوانبه غموض بسبب نقص من التوثيق المناسب.
فقد تمكنا من الإحاطة كليا بحقبة 1943-1956 (من تاريخ تأسيس الحزب الشيوعي المغربي حتى نهاية الحماية)، والإلمام بسعة المسألة، على صعيد سياسي كما على صعيد نقابي، وذلك بفضل توثيق كثيف جدا وبالغ الثراء مع كثير من النصوص غير منشورة استقيناها من مصدرها الأصلي. (أعطيت وأهديت آنذاك الصيغة الفرنسية من بيان الحزب الشيوعي المغربي المطالب بالاستقلال الصادر في 4 غشت 1946 للمرحوم عبد الله العياشي، وقد كان هذا البيان تعرض للحجز لكن عُثر عليه في جريدة للحزب الشيوعي الجزائري). وقد جرى إعداد قسم كبير من هذا العمل في المكتبة الوطنية وبالأرشيف الوطني بالرباط، مع مراجع مخطوطة من أرشيفات الإقامة العامة (مديرية الشؤون الأهلية، ومديرية الأمن العام، ومديرية الشؤون السياسية). قمت بتفحص منهجي للصحافة الشيوعية، النقابية المحلية أو ذات اهتمام مجاور ومغاربية. وأخيرا باشرت نبشا دقيقا ومنهجيا في جرائد حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، مع تحريات في جرائد أخرى تغطي مجمل الحقبة. وكان من حظي أن أعثر على المناضل النقابي محمد الطاهر (كان آنذاك قد غادر الحزب الشيوعي المغربي)، وألتقي به. وقد سبق أن كان الأمين العام المغربي (1946-1950) [إلى جانب أمين عام فرنسي] للاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب، العضو في الكونفدرالية العامة للشغل l’USGCM (CGT)،قبل الطيب بن بوعزة، للحصول على روايته للوقائع والأحداث. كما التقيت فاعلين آخرين من قبيل قيدوم الحزب الشيوعي المغربي المناضل عبد السلام بورقية والمقاوم الشيوعي عبد الله العياشي والمناضل النقابي محمد القاوقجي.
اعتذر عن هذه المقدمة الطويلة، لكن غايتها استجلاء أفضل لمناطق الظل في تلك الدراسة. كانت إحدى الأسئلة الجوهرية التي لم أجب عنها عندئذ السؤال التالي: هل سمع المغاربة عن ثورة أكتوبر 1917؟ وثمة أسئلة أخرى: هل حاول المغربي الشيخ محمد العتابي المشاركة في أشغال مؤتمر شعوب الشرق المنعقد في باكو في العام 1920؟ وهل سعى مغاربة إلى زيارة بلد الثورة، وفي أي تاريخ؟ وأخيرا، لماذا تم انتظار 1943 لتأسيس الحزب الشيوعي المغربي؟
ما يدعوني لطرح هكذا أسئلة هو كون المؤرخين المغاربة قلما كانوا يثيرون هذا الضرب من الأسئلة الإشكالية، مقتصرين او «راضين» بالرواية الأولية لروبير يزيت أو البير عياش أو جورج أوفيد؛ وكلهم مؤلفون بلغوا حدود أبحاثهم التاريخية. على هذا النحو، نرى على سبيل المثال في دراسات أكثر حداثة الأستاذ جامع بيضا يتبنى نفس الرواية، كأنه يريد «الفصل في النقاش» بقول: «دخلت الشيوعية المغرب في حقائب مواطنين فرنسيين أسسوا في سنوات 20 فرعا للحزب الشيوعي الفرنسي ووداديات نقابية أخرى منضوية».
هذا صحيح جزئيا، لكن صدوره عن مدير «أرشيف المغرب» يضفي عليه طابع جزم قاطع جدا، ومفرط التبسيط، وزعم خلو من أي تحفظ. بقصد الرد على هذه الرواية أو الأطروحة، وعودة إلى سؤالكم المتعلق بعلي حمامي، كان فعلا أول مغربي يزور بلد الثورة البلشفية. وكان أول شيوعي مغربي يرقى إلى صفة مندوب للأممية الشيوعية دون أن يكون عضوا بالحزب الشيوعي الفرنسي أو الحزب الشيوعي الاسباني. وبفعل هذه الوظيفة، التي جعلته يستقر أربع سنوات في موسكو، سيكون ويبقى الشيوعي المغربي (والمغاربي) الوحيد من الحركة العمالية الذي قارب ستالين وتروتسكي وزينوفييف وغيرهم من قادة الأممية الثالثة. وكان بصفته أحد مشرفي الأممية من مهندسي الحملة الشيوعية في فرنسا ضد حرب الريف (وهذا معطى جديد سيكشفه كتابنا عن سيرة هذا المناضل).
في الواقع، تمكنت في العام 1984 من تحديد هوية شخصيتين بالغتي الأهمية لدراستي التي كان قيد الإتمام: على حمامي وبن عمر محمد الحرش (الذي سيغدو جنرالا لدي الفييت منه)، فيما كنت على وشك إنهاء بحثي الجامعي عن الحزب الشيوعي المغربي.
تمكنت من التحقق من هوية على حمامي واكتشافه في 1984 بالنبش في أرشيف جريدة العلم لسنة 1949 من خلال سيرة مقتضبة كتبها علال الفاسي بعد وفاة هذا المناضل المأساوية في تحطم طائرة في متم العام1949 (مع محمد بن عبود والحبيب تامر). وكان نقص التوثيق بالغا.لذا اقتصرت على البحث عن الأسباب، والتساؤل عن موضوع زيارته للاتحاد السوفيتي. يبدو أن المناضلين الشيوعيين المغاربة لم يكونوا حينئذ يعرفون على حمامي، ولم يسمع عنه عبد السلام بورقية ولا عبد الله العياشي شيئا. وبالعكس، كان يعرفان جيدا المناضل بنعمر محمد الحرش. قمت بإثارة هذه الحالة بمناسبة مقال كتبه أيت قدور بجريدة الاتحاد الاشتراكي في 8 مايو 1984 في حديث عن المعارضين المغاربة بالجزائر حيث قال إنه كان عضوا بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ما جر عليه ردا فوريا من ندير يعته بجريدة البيان بتاريخ 9 مايو 1984، مع نبذة مفصلة جدا عن المسار الشيوعي لمحمد الحرش. دمجت العناصر الأولى المُجمّعة عن هذا المناضل واحتفظت بملف فرعي لكل غاية مفيدة.
في متم العام 1986، اتصل بي الا ستا ذ عبد الله ساعف، وعبر عن رغبته وتمنيه استئناف البحث بصدد هذه الشخصية الفريدة، وعزمه تخصيص كتاب لسيرته. فقمت بطلب منه بإمداده بجميع أعداد «إسبوار» و»أكسيونساندكال» ذات الصلة بالموضوع، بالاعتماد على مؤلفي عن الحزب الشيوعي المغربي كسند للانطلاقة، وذلك بقصد القيام ببحث أعمق وأدق تفصيلا عن هذا المناضل العمالي الكبير، الجنرال بنعمر الحرش، وهو الكتاب الذي سيصدر في العام 1996.
أما حالة علي الحمامي فأشد تعقيدا، إذ لزم انتظار متم سنوات 90 وبداية 2000، مع الإتاحة التدريجية للأرشيفات الفرنسية والاسبانية والسوفيتية (الاتحاد السوفيتي سابقا)، وكذا فتح العديد من مراكز الدراسات عن الحركة العمالية، للتمكن من الشروع في إنجاز أبحاث عن مناضلين مجهولين، مثل علي حمامي. وكان نشر روايته «إدريس»، وإعادة طبعها في الجزائر (وترجمتها إلى العربية في تونس) قد أتاح إثراء النقاش حول هذه الشخصية الفذة. وفي المغرب، ساعد تكاثر دراسات أكثر تفصيلا حول حرب الريف، في السنوات الأخيرة، على بلوغ إلمام أفضل بتلك الحقبة الهامة من أجل متابعة مسار هذا المناضل في سنوات 1920 و1930. وقد بلغت حاليا طورا متقدما في أبحاثي (يعرقلها شيئا ما كوفيد) وانوي نشرها متم هذا العام.
• يُلاحظ بوجه عام خفوت الاهتمام بتاريخ الحركة العمالية المغربية، سواء لدى مناضليها، أو أكاديميا . إلى ماذا يعزى ذلك في نظرك؟
– أنت على صواب تماما في وضع هذا السؤال. وإنه لفي محله على صُعد عدة والأمر إشكالي حقا لكنه واقع، والحالة مؤسية: لا حصيلة ايجابية. فالإقرار بهذا الواقع يتعلق فعلا بتراجع مريع للدراسات الجامعية والكفاءات المناضلة الأكاديمية أو النقابية منذ سنوات 1990.
كان كلود ليوزو (المولود بالمغرب) والمختص في المنطقة المغاربية مع ألبيرعياش ورونيه غاليسو قد لاحظ أنه « قلما نحصي من بين 3000 أطروحة متعلقة بالمنطقة المغاربية مُعدة بين العامين 1973 و 1987 زهاء عشرين تتعلق بالحركة النقابية، 7 مخصصة للجزائر و 7 لتونس و 2 للمغرب و 1 لليبيا».
لم يسبق قط لتاريخ العمل والحركات الاجتماعية أن شكل في الحقل الجامعي المغربي مجال دراسة متماسك. ولم يكن أبدا مجال بحث ودراسة جامعي قائم بذاته، إذا قارنا المغرب بفرنسا أو أوربا. ولم يكن لدينا قط مركز دراسات وتوثيق للحركة العمالية المغربية. أقصى ما بلغه الأمر كان اقتصارا على تدريس مواد مثل القانون الاجتماعي أو قانون الشغل لطلبة الحقوق، وتدبير الموارد البشرية في شعبة تسيير المقاولات).
وأخيرا، لم يُنصب أي جسر بين الجامعة والاتحادات النقابية من أجل دراسة الحركة العمالية المغربية، بعكس الجاري في تونس، حيث وضع الاتحاد العام التونسي للشغل، قبل سنوات 70، أرشيفات وتوثيقا في متناول الباحثين الجامعيين، ما يؤشر على درجة تأخرنا. والحال أن حقبة سنوات 70 و 80 حتى سنوات 90(مع سقوط جدار برلين، متم العام 1989) أُعتُبرت مدة طويلة كحقبة خصبة لمجال الدراسات هذا، وقد جرى نقاش كامل في الصحف والمجلات المناضلة (دعما لعملية إنشاء نقابات قطاعية في إطار الكونفدرالية الديمقراطية للشغل آنذاك ( المنوني، تافسكا…)
أكيد أن المعارك من أجل نزع الاستعمار قد غذّت تلك الوفرة العلمية. هذا الجيل الملتزم والمناضل بالمعنى الذي قصده كارل مانهايم وبنجامين سطورا (« مهندسو « أو »ورثة « الحركة الوطنية المغربية و المغاربية) هو اليوم زائل (ميت) أو يبدو متراجعا «غير نشيط بالمعنى النقابي او السياسي للكلمة»، دون ضمان المواصلة. إنها الوفاة البطيئة للحركة النقابية المغربية « باستعارة مزحة قديمة للأستاذ بالا زولي من الجامعة المغربية لسنوات 70 و80.
إن القصور الذي نتحدث عنه هنا يهم مجمل حقول المعرفة، من تاريخ العمل والحركات العمالية، والاقتصاد السياسي للتنمية، بعد العصر الذهبي للدينامية الجامعية التي حفزها مناضلون من قبيل عزيز بلال وإدريس بنعلي وجامعيون آخرون (يشهد هذا المجال حاليا اجتياحا من قبل شعبة تسيير المقاولات). ويهم كذلك العلوم السياسية (تم تقزيمها في القانون العام) و وقبل ذلك بسنوات شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع (بول باسكون والخطيبي،…)، بعد إغلاق معهد السوسيولوجيا بالرباط من طرف المخزن الذي ظفر بالحقل الجامعي بواسطة ثقافة ليبرالية و اسلاموية، مُسهما بذلك في صعود التيار الاسلاموي.
إن إنتاج المعارف وإيصالها، بما هو الشاغل الرئيسي للجامعة، كادا يكونا دوما ضمن منظور إيديولوجي: استعماري أولا، وأصبح مناهضا للاستعمار، ثم ماركسيا و ليبراليا، وسيغدو ما بعد استعماري ( مخلفات استعمار مستمرة، حول مسائل الهوية وإنتاج المعرفة).
وبالنسبة للمغرب بوجه خاص، يجب إضافة أن التيار الاسلاموي والمخزن قاما بتلغيم الحقل الأكاديمي، الذي أضعفته أيضا العداوات بين الأشخاص أو بين الأجيال والتشابكات السياسية التي تضافرت لهيكلته واقتياده أخير إلى حالة الوهن الكبرى التي سيدخل بها القرن 21.
أخيرا، يتبع أفول الدراسات حول الحركة العمالية بالمغرب وحتى بفرنسا هذا المنحنى الهابط للماركسية في الجامعات المغربية.
أشاطركم إذن الإقرار بواقع أن البحث الجامعي و النضالي حول الحركة العمالية المغربية لم يثبت بعد جدارته.وانه ليس للنضالات الاجتماعية المرتبطة بالعمل مكانة محددة بجلاء ضمن إشكالية العلوم الاجتماعية في الجامعة المغربية.
• مُؤرخ الحركة النقابية بامتياز، ألبير عياش، خصص لها كتابا من ثلاث أجزاء. ما التقييم الممكن لهذا الانجاز الرئيس في التأريخ لتلك الحركة؟
ألبير عياش، تحية إشادة بالمناضل و مؤرخ الحركة العمالية المغربية.
هو ذا مناضل ومؤرخ جامعي كبير يمثل استثناء للقاعدة. إذ يصعب الحديث عن تاريخ الحركة العمالية المغربية دون إثارة دور ألبير عياش ومكانته، هو الذي كرس قسما كبيرا من حياته للدراسة والبحث.
أستاذ تاريخ وجغرافيا، مناضل بالحزب الشيوعي المغربي، ومنظم ومسؤول بالاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب، مختص في الشؤون الاقتصادية وأخيرا مؤرخ الحركة النقابية. ألبير عياش (1905-1994) فاعل نشيط وباحث، مؤلف كُتب لا غنى عنها لكل متوخ معرفة الحركة العمالية المغربية.
تُعزى نوعية هذه الأعمال المرجعية إلى الصرامة المنهجية والدراية الممتازة بالميدان، الناجمة عن التزام متماسك نقابيا وعلى صعيد مناهضة للاستعمار.
هكذا شرع، منذ إبعاده إلى فرنسا، في العمل وانضم إلى مدرسة «الحوليات»، ونشر أول مقال له عن «إضرابات يونيو 1936» في العام 1957(مجلة ANNALES العدد 3).
يعود إليه الفضل بوجه خاص في عملين شهيرين لدى المناضلين والباحثين المغاربة: « المغرب والاستعمار، حصيلة السيطرة الفرنسية» (1956) ومجموعة لا غنى عنها من ثلاثة أجزاء حول تاريخ الحركة النقابية بالمغرب (1919-1956). الجزء 1: 1919-1942 (نشر في 1982)؛ الجزء 2: 1943-1948 (نشر في 1990)؛ الجزء 3: 1949-1956 (نشر في 1993).
يتعذر، بصدد الحقبة التي شملتها هذه الدراسة، تناول الكتابة التاريخية الاجتماعية والعمالية والنقابية المغربية دون إفراد ألبير بمكانة مميزة، وهذا رأي الباحث دانيال ريفيه، بعد إصدار دار نشر لارماتان لكتاب آخر عن الحركة النقابية بالمغرب في نفس التاريخ.
هاكم طُرفة، عرضها على سبيل المثال، هذا الباحث (المختص في تاريخ الحماية وليوطي) لكنها واقع كشفه، في قراءة نقدية لأطروحة مثيرة لجدل قوي كتبها فؤاد بن الصديق بعنوان «الحركة النقابية والسياسة بالمغرب»، يقول ريفيه:
«كتب المؤلف، وهو باحث شاب مغربي في العلوم السياسة، بصدد موضوع خاض فيه بعمق في مجرى سنوات 1970 باحثون ذوو باع طويل، عملا جديدا ومحفزا في الآن ذاته. لكن من المؤسف أن الكتاب لا ينطلق حقيقة إلا بدءا من العام 1943، أي عند الصفحة 200 وحاوليها. فهو حتى هذا الحد على صورة مجرى مؤسسات الحماية ومجرد صياغة جديدة للعمل المضبوط الممتاز الذي خص به ألبير عياش الحركة النقابية في المغرب من 1919 إلى 1942. كان على مدير سلسلة الكتب التي اندرج هذا المؤلف ضمنها أن يقترح على المؤلف مراجعة وصقل هذا العمل الطويل الذي يستنسخ مؤلفا كلاسيكيا حول الموضوع صادر عن نفس الناشر».
يستعصى إذن فيما يخص الحقبة الأولى (الجزء1) القفز على ما كتب ألبير عياش. فهو يتناول نصوصه بوضوح بيداغوجي كبير. إنه يتقاسم ما يعلم. ويعلم الكثير ويبحث كثيرا أيضا. ولم تكن اختياراته النضالية، لصالح تحرر الإنسان والشعوب، لتفسد قط تأملا فكريا صارما ومتطلبا بنحو دائم.
اتسمت نصوصه بثراء توثيقي كبير، مركزة على انبثاق الشعور الوطني، وعلى العالم العمالي والوقائع الاقتصادية للاستعمار.
ولابد من ملاحظة حرص ملازم على استجلاء الصلة بين تطور المجتمع اقتصاديا واجتماعيا والوعي الوطني، السياسي والنقابي. إن هذه الالتزامات هي التي جعلته، على غرار أبرز مناضلي الاتحاد العام للنقابات المتحدة الفرنسيين، هدفا للإبعاد إلى فرنسا بعد الإضراب العام في 1952 بالدار البيضاء. فبعد أحداث 7 و 8 ديسمبر، جرى طرد العديد من النقابيين والشيوعيين، فيما تم اعتقال المناضلين المغاربة أو تعذيبهم.
عاش ألبير عياش تلك الحقبة بعيدا عن المغرب، فيما كان حتئذ فاعلا في تلك الأحداث ومؤرخا لها. وسيبزغ لاحقا العديد من مناضلي السرية المنحدرين من مغربة الحركة العمالية هذه ممن لم يكن ألبير عياش يعرفهم. يتعلق الأمر بجيل آخر سينبثق مرتبطا بحركات المقاومة ليواصل المشوار.
هذا كله لقول إن ألبير عياش تردد وتأخر في نشر الجزء 3 وقاموس سير أعلام الحركة العمالية المغربية. وثمة أيضا عامل التقدم في العمر، وكان يعمل نصف الوقت. ومن باب النوادر أن التقاه صديق لي خلال سنة 1986، وانتهزت فرصة تنقله إلى فرنسا كي أبعث له منجزي الجامعي لسنة 1985 (مع ترجمة لمقالات من جريدة العلم عن إضرابات العام1948).
كان مبتهجا ومسرورا بعملي، ولم يتردد في الاستناد عليه، والاستشهاد بهذا العمل المُكمِّل في الجزء 3. لا بل كان يقر منذ الجزء 2 بأن « النبش في أعداد جريدة العلم يتيح استجلاء الفكر العمالي والنقابي للحزب الوطني» . ما يعني آن ثمة، كما الحال في كل عمل هائل، مناطق عتمة تملي علينا واجب سد الفجوات واستكمال العمل. إنها نفس مساحات العتمة التي تشوب عمله عن سير المناضلين النقابيين المنشور بعد وفاته في 1994.
• وماذا عن هذا الكتاب الخاص بالمغرب ضمن قاموس أعلام الحركة العمالية المغاربية ( ألبير عياش بتعاون مع رونيه غاليسو و جورج اوفيد) الصادر قبل زهاء ربع قرن. هل يفي بالغرض في نظركم، ألم يغفل عددا من أعلام الحركة النقابية؟
– يتعين، بادي ذي بدء، التأكيد على أن قاموس سير أعلام الحركة النقابية بالمغرب، الصادر عن دار نشر بالمغرب في العام 1998، هو أول جزء من ثلاثية مكرسة للمنطقة المغاربية، مندرجة بنحو ممتاز ضمن قاموس سير أعلام الحركة العمالية الفرنسية لصاحبه جان مايترون ثم كلود بونتييه.
قدم ألبير عياش ورونيه غاليسو وجورج اوفيد لوحة إجمالية لمناضلين معروفين أو مغمورين، شكلوا بدءا من سنوات 1920 ثم 1945 تربة الحركة النقابية ومكونا أساسيا لكفاحات التحرر الوطني. كانت 600 نبذة حياة التي صاغوها غير كاملة أحيانا- تدوم حيوات بعض المناضلين فترة وجيزة و تضيع الآثار- لكنها دوما أخاذة ومعبرة عن مسارات جماعية وفردية هي معالم تنير تطورات الحركة العمالية والنقابية المغربية حتى أيامنا هذه. وينحدر هؤلاء المناضلون من كل الأصول: مغاربة وأوربيون، منهم الاشتراكيون والشيوعيون والتروتسكيون واللاسلطويون والوطنيون. منهم العمال، والمستخدمون وصغار الموظفين وعمال سكك الحديد ومعلمون، ومنهم العديد من شغلية المناجم .
بيد أن مساحات العتمة تتعلق بما يلي:
-الحركة العمالية والنقابية للمنطقة الشمالية (إضرابات تطوان وأحداثها في 1948 على سبيل المثال).
– المناضلون النقابيون الإسبان بمنطقة الشمال أو المنطقة الجنوبية غير ممثلين كفاية في معظم الأحيان. إذا اعتمدنا تعريف مايترون للمناضل، وجب تمثيل الشخصيات الوطنية بمنطقة الشمال.
– المهاجرون بفرنسا والحركة النقابية المغربية عهدئذ
– الحركة العمالية وحركة المقاومة (اغتيال المناضلين العماليين الشيوعيين وتصفيتهم جسديا)
– قسم مهم من نبذة حياة المناضلين تنقصها الدقة، فيما يتعلق بتاريخ الولادة ومكانها، وتاريخ الوفاة… والمسار السياسي أو النقابي بعد الاستقلال…
– وأخيرا ثمة «ضحايا التجاهل» في تلك الحقبة، آو العاملون في سرية والمنسيون: فيما يخص الهجرة والمنفى ثمة مندوب الأممية الشيوعية علي حمامي، ومغاربة اللواء الأممي في اسبانيا، ومناضلو جنوب البلد من قبيل عبد الله مؤقت، ومقاومون ويهود مغاربة معادون للصهيونية، ونساء مناضلات ومقاومات…
تظل السيرة عملا غير مكتمل يتطلب منا تحيينه وإتمامه.
أخيرا، ومع مراعاة الفروق، ودون ادعاء إتيان مقارنات متعسفة، يستحق ألبير عياش، على غرار جرمان عياش ومؤرخين آخرين، «مؤلفا تذكاريا» أو ندوة حول مجمل أعمال هذا المؤرخ الفذ.
• يلاحظ في البحث الأكاديمي نقص مهول فيما يخص موضوع الحركة النقابية، مثال ذلك موسوعة معلمة المغرب، و تاريخ المغرب، تحيين وتركيب تحت إشراف محمد القبلي، على سبيل المثال. فهل هذا تراجع أم هو ثابت من ثوابت البحث التاريخي في المغرب؟
– عودة إلى البحث الأكاديمي الرسمي، لا أعتقد أن البحث في شأن الحركة النقابية قد كان ضمن الأولويات في لحظة ما. وقد بات تهميش حقل التخصص هذا ثابتة في البحث الأكاديمي وفي الجامعة المغربية.
إن العلاقة بالتاريخ الوطني مرتبطة جوهريا بالدولة السلطانية التي تجد في التاريخ أسس شرعيتها السياسية (الشريفية والخليفية) و ركائز عظمتها. لا يمكن ترك التاريخ للمؤرخين الملتزمين الذين من شأنهم أن يؤكدوا مبكرا على التعقيد التاريخي و ويبعثوا خلافات الماضي وتورطاته، لاسيما في الحقبة الاستعمارية. في لحظة ما كانت الأرشيفات مراقبة والكتابة التاريخية عن البلد تحت إشراف مؤسسة «مؤرخ المملكة» عبد الوهاب بنمنصور(1920-2008)، المكلف بكتابة التاريخ الرسمي المعروض في وسائل الإعلام وفي المدرسة وبمراقبته. بقيت الجامعة وحدها بنحو نسبي فضاء حرا للتبادل وللمعارف غير الموجهة. لكن ما أبعدنا عن الجامعة التي كانت ملاذا أمنا للمعرفة، وحيث تشكلت النواة الصلبة لمدرسة تاريخية كبيرة. إن المثقفين متيني التكوين، مزدوجي اللغة فعلا وذوي شهادات راقية، الذين اجتاحوا الجامعة باتوا اليوم نادرين.
ثمة طبعا استثناءات ايجابية للقاعدة تتعلق بحقبة الاستعمار: منها افتتاح مركز الوثائق التاريخية للمقاومة وجيش التحرير (المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير) حيث يوجد زهاء 3 مليون وثيقة خاصة بفترة 1880 إلى 1956 (حركات مسلحة، حرب الريف،أحزاب سياسية وحركة نقابية). إنها ربما مناسبة للشروع في دراسة عن العلاقات بين الحركة العمالية وحركة المقاومة.
وقبل هذا المركز، تجدر الإشارة إلى إحداث مراكز مزود بمكتبات في شكل مؤسسات: مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة بتطوان/ مؤسسة علال الفاسي بالرباط/مؤسسة محمد ألوزاني بالدار البيضاء/ مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد بسلا/ مؤسسة علي يعته بالرباط.
المؤسسات الثلاث الأولى أغزر إنتاجا لإصدارات عن الحركة الوطنية، وإتاحة لمن يريد استخلاص فكر وطني لدى الحركة العمالية، كما يوجد في هذه المؤسسات (علال الفاسي ومحمد داود) توثيق أقل شانا نسبيا قد ينال اهتمام الحركة العمالية.
• كيف هي حال الأرشيفات الخاصة بهذا الموضوع، لدى المؤسسات الرسمية، ولدى الحركة النقابية؟ وإلى أي حد قد تفيد الأرشيفات بالخارج؟
بعكس القائم في فرنسا، وفي البلدان الأوربية، ولدى جيراننا المغاربيين بتونس، يرزح المغرب في تأخر هائل يتعين تداركه في مجال التوثيق التاريخ العمالي والاجتماعي.
بيد أن مجمل وضع الأرشيف المتعلق بالنشاط الاقتصادي والاجتماعي للبلد هو المعاني من وضع كارثي! إن ذاكرة المغاربة برمتها تظل مهددة. على صعيد رسمي، وجب انتظار خمسين سنة كي تتفاعل الدولة وترصد حالة ذاكرتنا الجماعية المثيرة للرثاء. وكان هذا من الأبعاد التي أكدت عليها جيدا هيئة الإنصاف والمصالحة. وضمن المنظور نفسه، تستوجب الممارسة الفعلية لحق الحصول على المعلومات، المكرس دستوريا، تدبيرا عصريا وشفافا للأرشيفات. وقد كان المجلس الأعلى للحسابات قد لفت الأنظار إلى هذا الوضع، حيث لاحظ في تقريره انعدام أي تشخيص لحالة الأرشيفات الوطنية. ومن ثمة غياب رؤية إستراتيجية وخطة عمل ملموسة ذات أهداف محددة بدقة.
ما وضع الأرشيفات والتوثيق المغربي في حقل التاريخ العمالي و الاجتماعي؟ أعتقد أن الوضع كارثي على نحو أكبر! حدث أن انتقلت، في العام2019 (قبيل جائحة كوفيد-19) إلى المكتبة العامة السابقة والأرشيفات للاطلاع من جديد على أعداد «إسبوار»، جريدة الحزب الشيوعي المغربي، وكانت المفاجئة السيئة أني لم اعثر سوى على 12 عددا من 148 التي أتيح لي تصفحها في العام1984! ويمكن القول، بكل مراعاة للفروق، وبكامل التحفظات، إنها مجلات أو وثائق عرضة للإتلاف، والتمزيق والضياع، وإساءة التوضيب… إما بفعل نقص حس المواطنة لدى القارئ، أو إهمال من القييمن، او نقص إمكانات؟ مهما يكن من أمر، يجب العمل بعجالة لوقف هذه المصيبة. إن المطلوب إنقاذ تراث كامل. وسيكابد الباحثون المغاربة أو الأجانب المحتملون(رغم قلتهم) مشاق هذا الوضع.
وثمة أخيرا أرشيفات النقابات، ورغم حسن نية المناضلين (الذين ليسوا قييمي مكتبات)، تتباين الممارسات فيما يخص جمع الأرشيفات وتنظيمها وحفظها، من اتحاد نقابي إلى آخر، كل بحسب تاريخه ومن ثمة كتلة المحفوظات لديه. ثمة مبدئيا، على الصعيد التنظيمي، مصلحة خاصة بالأرشيف، لكنها في الواقع مصلحة استثنائية يُلجا إليها لماما، بمناسبة مؤتمر أو حدث أو إصدار كراسة.
إننا لا نزال، في زمن رقمنة الأرشيفات والتوثيق العمالي، طور الاستكشاف والرصد المضبوط!
• هل من صيغة ممكنة لإعادة إحياء الاهتمام بتاريخ الحركة العمالية؟
يتمثل الحل الممكن لمعالجة هذا الوضع في جمع هذا الأرشيف، في طور أول، في مركز توثيق ودراسة للحركة العمالية، والحقيقة أننا تأخرنا كثيرا. ثمة في فرنسا حاليا 46 مركز ومكتبة مختصة في التوثيق والبحث في شأن الحركة العمالية.
ستكون مهمة المركز المقترح في البداية تجميع التوثيق المتعلق بالحركة العمالية والحركة الاجتماعية المغربية، من قبيل:
– نصوص ووثائق مخطوطة أو مطبوعة: كتب وجرائد وكراسات، وتقارير، ومراسلات؛
– التوثيق المصور: صور، وملصقات، ولوحات أو وثائق سمعية وبصرية: استجوابات، أناشيد، شعارات أثناء الإضرابات أو المظاهرات.
ويمكن اقتراح مجالات بحث على الباحثين منها:
– تاريخ الحركة العمالية (أحزاب ونقابات)؛
– تاريخ العمل (ظروف العمل، تنظيمه، قوانينه، المطالب، التفاوض، المظاهرات، الإضرابات)؛
– التاريخ الاجتماعي (ظواهر الهجرة، الثقافة الشعبية، السكن والأحياء العمالية)
– تاريخ المؤسسات أو المقاولات في علاقة مع الحركة النقابية (شغيلة المناجم، عمال سكك الحديد، الشيالون…) أو قطاعات عمومية (التعليم، الصحة، البريد…)
إنها دعوة إلى النقاش والتفكير موجهة إلى الباحثين و الجامعيين، والى النقابيين والمناضلين المهتمين بهذا الشأن.[*] نشرت بمجلة الربيع- عدد 7 – 2018، مركز بنسعيد ايت ايدر للابحاث و الدراسات.
اقرأ أيضا