(3) لابد من الإهتمام بالجزئيات (٭)
علينا أن نعيد بناء اقتصادنا المدمر. علينا أن نبني، وننتج، ونرمم، ونرقع. إننا ندير اقتصادنا وفق أسس جديدة يفترض فيها أن تضمن رفاهية سائر الشغيلة. لكن الإنتاج، في جوهره، يتلخص في صراع الإنسان ضد قوى الطبيعة المناوئة، وفي الإستخدام العقلاني للثروات الطبيعية. أما السياسة، والمراسيم، والشعارات فدورها ينحصر في تنظيم النشاط الاقتصادي بتحديدها له وجهة عامة. بيد أن انتاج السلع المادية، والعمل المنهًّج، العنيد والمثابر، هما وحدهما اللذان يستطيعان فعلا تلبية حاجات الإنسان. إن السيرورة الاقتصادية تتألف من أجزاء وعناصر مختلفة، من تفاصيل وأشياء صغيرة. ويستحيل إعادة بناء اقتصاد من دون إحاطة هذه الجزئيات باهتمام فائق. والحال أن هذا الإهتمام معدوم – أو يكاد – عندنا. والمهمة الأساسية للتثقيف والتثقف الذاتي في ميدان الاقتصاد هي إيقاظ وتنمية وتعزيز هذا الإهتمام بمتطلبات الاقتصاد الخاصة، والتافهة واليومية. يجب ألا نهمل شيئا، وأن نلاحظ أبسط الأمور، وأن نتصرف ونتدخل في اللحظة المطلوبة، وأن نطالب الآخرين بحذو حذونا. هذه المهمة تفرض نفسها علينا جميعا وفي سائر ميادين الحياة السياسية والبناء الاقتصادي.
إن تأمين الثياب والأحذية للجيش ليس بالأمر السهل، نظرا للوضع الحالي للإنتاج. وغالبا ما يكون التموين غير منتظم. لكن بالمقابل ليس ثمة من يهتم، في الجيش، بتصليح الأحذية والثياب المتوفرة أو الحفاظ عليها في حالة جيدة. فنادرا جدا ما تصبغ الأحذية، وعندما نسأل عن السبب تأتينا أجوبة مختلفة : فتارة لأن الدهان ليس متوفرا، وتارة لأنه لم يوزع في الوقت المناسب، وطورا لأن الجزمات بنية اللون في حين أن الدهان أسود، إلخ. غير أن السبب الرئيسي هو إهمال جنود الجيش الأحمر وكوادره لمتاعهم. فالجزمة غير المصبوغة، ولاسيما إن كانت قد ابتلت، تجف بسرعة ويكون مآلها إلى سلة القمامة، وإن كانت أسابيع معدودة فقط قد انقضت على استعمالها. ولما كنا عاجزين أساسا عن تأمين الكميات المطلوبة من الجزم، فقد بتنا ننتجها كيفما كان. فأضحت تتلف بسرعة أكبر أيضا. إنها لحلقة مفرغة. لكن ثمة وسيلة للخروج منها، وسيلة بسيطة للغاية. يجب أن تدهن الجزم في الوقت المطلوب، وأن تربط بعناية، وألا يشوه منظرها وبغير شكلها. لقد أتلفنا أحذية أميركية جيدة لا لشيء إلا لأننا لا نملك سيور أحذية. علما بأنه كان بإمكاننا الحصول عليها فيما لو ألححنا قليلا. على كل حال، إن كانت السيور مفقودة فذلك لأننا على وجه التحديد لا نعير بالا لدقائق الحياة اليومية. علما بأن هذه الدقائق الصغيرة هي التي تصنع كل شيء في نهاية المطاف.
القصة نفسها تتكرر، ولكن على نحو أفظع بعد، مع الحربات. فإذا كان من الصعب صنعها، فإنه من السهل إتلافها. والمطلوب هو الإعتناء بالحربة، تنظيفها وتشحيمها. وهذه العناية تفترض اهتماما مستمرا ومثابرا. إنها تفترض تدريبا كاملا، وتربية كاملة.
هذه الجزئيات التي تتراكم وتتفاعل تنتهي إما بإعطاب شيء هام … واما بتدمير شيء هام. فحفر الطريق الصغيرة لا يتم اصلاحها بسرعة تكبر وتشكل فجوات وأخاديد تعيق السير وتلحق الأضرار بالعربات والسيارات والشاحنات، وتتلف العجلات، والطريق التي تكون في حالة متردية تتسبب في انفاق أموال وجهود توازي عشرة أضعاف ما كان سينفق على تصليحها. وبسبب جزئيات صغيرة من هذا القبيل، تتلف الآلات والمعامل والأبنية. وللحفاظ عليها في حالة جيدة لا بد من أن نولي الجزئيات اهتماما يوميا ودائما. وهذا الإهتمام ينقصنا، لأن تربيتنا الاقتصادية والثقافية غير مكتملة.
غالبا ما يصار إلى الخلط بين الإهتمام بالجزئيات وبين النزعة البيروقراطية. وهذا خطأ فادح. فالنزعة البيروقراطية تكمن في تسليط الإهتمام على الشكل الفارغ على حساب المضمون وعلى حساب العمل. والنزعة البيروقراطية تغوص في الشكلية، في صغائر الأخطاء والهفوات، ولا تحل أبسط الأمور العملية. النزعة البيروقراطية بالعكس تتجنب، بصورة عامة، التفاصيل العملية التي تشكل لب المشكلة، وتكتفي فقط بمحاولة تنظيم ركام أوراقها القديمة.
إن المطالبة بعدم التف وإلقاء أعقاب السجائر على السلالم وفي الممرات هو “أمر بسيط ” مطلب لا يذكر، بيد أن له دلالته التربوية والاقتصادية الهامة. فالشخص الذي يتف دون حياء على سلم أو على أرضية خشبية هو عديم الفائدة، هو انسان غير مسؤول. ولن ننتظر منه أن يعيد بناء الاقتصاد. فلا ريب في أنه لن يصبغ جزمته، وفي أنه سيكسر لوحا زجاجيا بلا انتباه، كما أنه سيكون مقملا..
أعيد فأكرر أن بعضهم قد يرى في الإهتمام الدائب بهذا النوع من الجزئيات ضربا من المشاحنة والمشاكسة ومن ” النزعة البيروقراطية “. لكن غالبا ما يخفي عديمو الفائدة واللامسؤولون طبيعتهم بالنضال ضد نزعة بيروقراطية مزعومة. إنهم يقولون : ” لمَ هذه الضجة كلها حول عقب سيجارة مرمي على سلم ! “. وهذه هي الحماقة بأم عينها. فإلقاء أعقاب السجائر على الأرض يعني احتقار عمل الآخرين. ومن لا يحترم عمل الآخرين، فلا بد أن يكون مهملا لعمله الخاص أيضا. والحال أنه كي تتطور المساكن المشتركة[1]، فلا بد أن يهتم كل مستأجر، رجلا أكان أم إمرأة، بتوفير النظافة والترتيب للدار بأكملها، وإلا وجد المستأجرون أنفسهم – وهذا ما يحصل غالبا مع الأسف – في جحر مقمل، مليء بالبصاق لا في دار مشتركة. وعلينا أن نحارب، بلا كلل ولا رحمة، هذه الوقاحة، هذه القلة في التهذيب، هذا الإهمال. نحارب بالشرح والتفسير، بإعطاء المثل الصالح، بالقيام بعمل إعلامي، بنصح الناس وبحملهم على أن يكونوا مسؤولين. فمن يصعد على سلم ملوث أو يجتاز باحة قذرة ولا يبدي أي ملاحظة، فهو مواطن غير صالح وهو بان بلا وجدان.
إن الجيش يجمع بين الجوانب الإيجابية والسلبية للحياة الشعبية. وهذا ما يتضح تماما في التربية الاقتصادية. فعلى الجيش أن يرتقي، ولو لدرجة واحدة، في هذا الميدان. ويمكن تحقيق ذلك بفضل الجهود المتضافرة لكوادر الجيش القيادية، من أعلى السلم إلى أسفله، ولخيرة عناصر الطبقة العاملة والفلاحية برمتها.
ففي الوقت الذي كان فيه الجهاز الحكومي السوفياتي ما يزال قيد التكوين، كانت التحزبية[2] قد تغلغلت في الجيش فأمسى يطبق أساليبها. وقد خضنا كفاحا مثابرا، لا هوادة فيه، ضد هذه العقلية وحصلنا على نتائج هامة دون أدنى ريب : فنحن لم ننشئ فقط جهاز قيادة وإدارة مركزيا، بل توصلنا أيضا، وهذا أهم، إلى حمل الشغيلة على أن يعيدوا النظر في ضمائرهم بهذه العقلية التحزبية على صعيد وعيهم بالذات.
وعلينا اليوم أن نخوض كفاحا ليس بأقل أهمية : علينا أن نحارب سائر أشكال ” التنبلة “، والإهمال، واللامبالاة، والقذارة، واللاانضباطية، والاسترخاء، والتبذير. فتلك هي درجات وأوجه مختلفة لداء واحد : من جهة نقص في الإنتباه، ومن الجهة الأخرى استهتار سمج. ومن الضروري أن نقوم في هذا المجال بعملية واسعة النطاق، بكفاح يومي، مثابر ودائب نسخر له سائر الوسائل المتوفرة – من تحريض واقتداء ونصح وعقاب .. إسوة بما أقدمنا عليه عندما اضطررنا إلى القضاء على التحزبية.
إن أعظم خطة لا تعدو أن تكون ضربا من العبث إذا لم تحسب حسبانا للجزئيات، فما الفائدة مثلا من استصدار أفضل المراسيم إن كان الإهمال سيحول دون تبليغها في الوقت المناسب، أو ان كانت ستنسخ بأخطاء، أو إن كانت ستطالع بلا انتباه ؟ وما يصح على المستوى الأدنى ينطبق على المستوى الأعلى.
نحن فقراء ولكنا مبذرون. نحن لا نعرف الإنتظام. ونحن مهملون. وأيضا قذرون. ولهذه العيوب جذور في ماضي عبوديتنا. لذا لن نستطيع التخلص منها إلا تدريجيا، وبفضل دعاية مثابرة، والقدوة الصالحة، والبرهنة، والرقابة الدقيقة، والتيقظ، والتشدد في كل لحظة وآن. لتحقيق مشاريع عظمى، علينا أن نولي أصغر الجزئيات اهتمامنا ! – حول هذا الشعار ينبغي أن يلتف سائر المواطنين الواعين والمدركين الذين يتصدون لمرحلة جديدة من البناء والتطوير الثقافي.
[1] أي المساكن المنظمة على شكل كومونة. (م)
[2] التحزبية : تعبير تحقيري كان يقصد به الكوادر الحزبية المتطلعة إلى أن تكون ” أكثر حزبية من الحزب نفسه ” والتي كانت تنتهي إلى الفوضوية وإلى الخروج على الإنضباط.(م)
اقرأ أيضا